الصفحة الرئيسية سجل الزوار راسلنا
» الرواية الاولى لشهادة الامام الجواد ع  
» سيرة الأئمة (ع)




أبو عبد الله الحسين بن علي سيّد الشهداء _ عليه السلام _

 
 هو ثالث أئمّة أهل البيت الطاهر، وثاني السبطين، وسيدي شباب أهل الجنّة، وريحانتي المصطفى _ صلى الله عليه وآله وسلم _، وأحد الخمسة أصحاب الكساء، وسيّد الشهداء، وأُمّه فاطمة بنت رسول الله _ صلى الله عليه وآله وسلم _.
 

ولادته _ عليه السلام _

 ولد في المدينة المنوّرة في الثالث من شعبان سنة ثلاث أو أربع من الهجرة، ولمّا ولد جيء به إلى رسول الله _ صلى الله عليه وآله وسلم _ فاستبشر به، وأذّن في أُذنه اليمنى وأقام في اليسرى، فلمّـا كان اليوم السابع سمّـاه حسيناً، وعقَّ عنه بكبش، وأمر أُمّه أن تحلق رأسه وتتصدّق بوزن شعره فضّة، كما فعلت بأخيه الحسن، فامتثلت3 ما أمرها به.
 

خصائصه _ عليه السلام _

 إنّ حياة الاِمام الحسين من ولادته إلى شهادته حافلة بالاَحداث، والاِشارةـ فضلاً عن الاِحاطة ـ إلى كلّ ما يرجع إليه يحتاج إلى تأليف مفرد، وقد أغنانا في ذلك ما كتبه المؤلّفون والباحثون عن جوانب حياته _ عليه السلام _، حيث تحدّثوا في مؤلّفاتهم المختلفة عن النصوص الواردة من جدّه وأبيه في حقّه، وعن علمه ومناظراته، وخطبه وكتبه وقصار كلمه، وفصاحته وبلاغته، ومكارم أخلاقه،
وكرمه وجوده، وزهده وعبادته، ورأفته بالفقراء والمساكين، وعن أصحابه والرواة عنه، والجيل الذي تربّى على يديه. وذلك في مؤلّفات قيّمة لا تعد ولاتحصى.
 
كفاحه وجهاده الرسالي:
 غير إنّ للحسين _ عليه السلام _ وراء ذلك، خصّيصة أُخرى وهي كفاحه وجهاده الرسالي والسياسي الذي عُرِفَ به، والذي أصبح مدرسة سياسية دينيّة، لعلها أصبحت الطابع المميّز له _ عليه السلام _ والصبغة التي اصطبغت حياته الشريفة بها، وأُسوة وقدوة مدى أجيال وقرون، ولم يزل منهجه يؤثّر في ضمير الاَُمّة ووعيها، ويحرّك العقول المتفتّحة، والقلوب المستنيرة إلى التحرّك والثورة، ومواجهة طواغيت الزمان بالعنف والشدّة.
 وها نحن نقدّم إليك نموذجاً من غرر كلماته في ذلك المجال حتّى تقف على كفاحه وجهاده أمام التيّارات الاِلحاديّة والانهيار الخلقي.
 

إباؤه للضيم ومعاندة الجور
 لمّا توفّي أخوه الحسن في السنة الخمسين من الهجرة أوصى إليه بالاِمامة فاجتمعت الشيعة حوله، يرجعون إليه في حلّهم وترحالهم، وكان لمعاوية عيون في المدينة يكتبون إليه ما يكون من الاَحداث المهمّة التي لا توافق هوى السلطة الاَُموية المنحرفة، والتي قد تؤلّف خطراً جدّياً على وجودها غير المشروع، ولقد كان همّ هذه السلطة هو الاِمام الحسين _ عليه السلام _ لما يعرفونه عنه من موقف لا يلين ولا يهادن في الحقّ، ومن هنا فقد كتب مروان بن الحكم ـ وكان عامل معاوية على المدينة ـ: إنّ رجالاً من أهل العراق ووجوه أهل الحجاز يختلفون إلى الحسين بن عليّ وأنّه لا يأمن وثوبه، ولقد بحثت عن ذلك فبلغني أنّه لا يريد الخلاف يومه هذا، ولست آمن أن يكون هذا أيضاً لما بعده.
 ولمّا بلغ الكتاب إلى معاوية كتب رسالة إلى الحسين وهذا نصّها:
 أمّا بعد؛ فقد انتهت إليّ أُمور عنك إن كانت حقّاً فإنّي أرغب بك عنها، ولعمر الله إنّ من أعطى الله عهده وميثاقه لجدير بالوفاء، وإنّ أحقَّ الناس بالوفاء من كان في خطرك وشرفك ومنزلتك التي أنزلك الله لها...(1).
 ولمّا وصل الكتاب إلى الحسين بن عليّ، كتب إليه رسالة مفصّلة ذكر فيها جرائمه ونقضه ميثاقه وعهده، نقتبس منها ما يلي:
 
 «ألست قاتل حجر بن عديّ أخا كندة وأصحابه المصلّين، العابدين، الّذين ينكرون الظلم، ويستفظعون البدع، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ولا يخافون في الله لومة لائم، ثمّ قتلتهم ظلماً وعدواناً من بعد ما أعطيتهم الاَيمان المغلّظة والمواثيق المؤكّدة، ولا تأخذهم بحدث كان بينك وبينهم، جرأة على الله واستخفافاً بعهده؟
 أولست قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول الله، العبد الصالح الذي أبلته العبادة فنحل جسمه واصفرّ لونه، فقتلته بعد ما أمنته وأعطيته العهود ما لو فهمته العصم لنزلت من شعف الجبال(2).
 أولست المدّعي زياد بن سميّة المولود على فراش عبيد بن ثقيف فزعمت أنّه ابن أبيك، وقد قال رسول الله _ صلى الله عليه وآله وسلم _: «الولد للفراش وللعاهر الحجر»، فتركت سنّة رسول الله _ صلى الله عليه وآله وسلم _ تعمّداً وتبعت هواك بغير هدي من الله، ثمّ سلّطته على أهل الاِسلام يقتلهم، ويقطع أيديهم وأرجلهم، ويُسمل أعينهم، ويصلبهم على جذوع النخل، كأنّك لست من هذه الاَُمّة وليسوا منك.
 أولست صاحب الحضرميين الذين كتب فيهم ابن سميّة أنّهم على دين عليّـ صلوات الله عليه ـ فكتبت إليه: أن اقتل كلّ من كان على دين عليّ، فقتلهم ومثّل بهم بأمرك، ودين عليّ هو دين ابن عمّه _ صلى الله عليه وآله وسلم _ الذي كان يضرب عليه أباك ويضربك، وبه جلست مجلسك الذي أنت فيه، ولولا ذلك لكان شرفك وشرف آبائك تجشّم الرحلتين رحلة الشتاء والصيف»(3).
 
 هذا هو الحسين، وهذا هو إباؤه للضيم ودفاعه عن الحق ونصرته للمظلومين في عصر معاوية. وذكرنا هذه المقتطفات كنموذج من سائر خطبه ورسائله التي ضبطها التاريخ.
 
 
الاِمام الحسين _ عليه السلام _ وكربلاء

 

رفضه البيعة ليزيد:
 لمّا هلك معاوية في منتصف رجب سنة 60 هجرية كتب يزيد إلى الوليد بن عتبة والي المدينة أن يأخذ الحسين _ عليه السلام _ بالبيعة له، فأنفذ الوليد إلى الحسين _ عليه السلام _ فاستدعاه، فعرف الحسين ما أراد، فدعا جماعة من مواليه وأمرهم بحمل السلاح وقال: «اجلسوا على الباب فإذا سمعتم صوتي قد علا فادخلوا عليه ولا تخافوا عليّ».
 وصار _ عليه السلام _ إلى الوليد فنعى الوليد إليه معاوية، فاسترجع الحسين _ عليه السلام _ ثمّ قرأ عليه كتاب يزيد بن معاويـة، فقال الحسين _ عليه السلام _: «إنّي لا أراك تقنع ببيعتي ليزيد سرّاً حتّى أُبايعه جهراً فيعرف ذلك الناس»، فقال له الوليد: أجل، فقال الحسين _ عليه السلام _: «فتصبح وترى رأيك في ذلك» فقال الوليد: انصرف على اسم الله تعالى، فقال مروان: والله لئن فارقك الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبداً حتّى يكثر القتلى بينكم وبينه، احبس الرجل فلا يخرج من عندك حتّى يبايع أو تضرب عنقه، فوثب عند ذلك الحسين _ عليه السلام _ وقال: «أنت يا بن الزرقاء تقتلني أو هو؟ كذبت والله وأثمت» ثمّ خرج(4).
 وأصبح الحسين من غده يستمع الاَخبار، فإذا هو بمروان بن الحكم قد عارضه في طريقه فقال: أبا عبد الله إنّي لك ناصح فأطعني ترشد وتسدّد، فقال: «وما ذاك قل أسمعْ» فقال: إنّي أرشدك لبيعة يزيد؛ فانّها خير لك في دينك وفي دنياك!! فاسترجع الحسين وقال: «إنّا لله وإنّا إليه راجعون وعلى الاِسلام السَّلام إذا بليت الاَُمّة براع مثل يزيد، ثمّ قال: يا مروان أترشدني لبيعة يزيد!! ويزيد رجل فاسق، لقد قلت شططاً من القول وزللاً، ولا ألومك؛ فإنّك اللعين الذي لعنك رسول الله وأنت في صلب أبيك الحكم بن العاص، ومن لعنه رسول الله فلا ينكر منه أن يدعو لبيعة يزيد، إليك عنّي يا عدوّ الله، فإنّا أهل بيت رسول الله الحقّ فينا ينطق على ألسنتنا، وقد سمعت جدّي رسول الله يقول: الخلافة محرّمة على آل أبي سفيان الطلقاء وأبناء الطلقاء، فإذا رأيتم معاوية على منبري فابقروا بطنه. ولقد رآه أهل المدينة على منبر رسول الله فلم يفعلوا به ما أُمروا فابتلاهم بابنه يزيد»(5).
 
خروجه من مكّة ومكاتبة أهل الكوفة له:
 ثمّ إنّ الحسين غادر المدينة إلى مكّة، ولمّا بلغ أهل الكوفة هلاك معاوية اجتمعت الشيعة في منزل سليمان بن صرد فاتّفقوا أن يكتبوا إلى الحسين رسائل وينفذوا رسلاً طالبين منه القدوم إليهم في الكوفة؛ لاَنّ القوم قد بايعوه ونبذوا بيعة الاَمويّين، وألحّوا في ذلك الاَمر أيّما إلحاح، مبيّنين للاِمام _ عليه السلام _ أنّ السبل ميسّرة والظروف مهيّأة لقدومه، حيث كتب له وجهاؤهم من جملة ما كتبوه:
 «أمّا بعد؛ فقد اخضرّ الجناب وأينعت الثمار، فإذا شئت فأقبل على جند لك مجنّدة».
 ولما جاءت رسائل أهل الكوفة تترى على الحسين _ عليه السلام _ أرسل ابن عمّه مسلم ابن عقيل ـ رضوان الله عليه ـ إلى الكوفة ممثّلاً عنه لاَخذ البيعة له منهم، وللتحقّق من جدّية هذا الاَمر، ثمّ كتب إليهم: «أمّا بعد؛ فإنّ هانئاً وسعيداً قدما عليَّ بكتبكم، وكانا آخر من قدم عليَّ من رسلكم، وقد فهمت كلّ الذي اقتصصتم وذكرتم، ومقالة جلّكم أنّه ليس علينا إمام فاقبل لعلّ الله أن يجمعنا بك على الحقّ والهدى، وإنّي باعث إليكم أخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل، فإن كتب إليَّ: أنّه قد اجتمع رأي ملَئِكم وذوي الحجى والفضل منكم على مثل ما قدمت عليّ به رسلكم، وقرأته في كتبكم، فإنّي أقدم عليكم وشيكاً إن شاء الله، فلعمري ما الاِمام إلاّ الحاكم بالكتاب، القائم بالقسط، الدائن بدين الحق، الحابس نفسه على ذات الله»(6).
 ثمّ خرج الاِمام من مكة متوجّهاً إلى الكوفة يوم التروية أو يوماً قبله مع أهل بيته وجماعة من أصحابه وشيعته، وكان كتاب من مسلم بن عقيل قد وصل إليه يخبره ببيعة ثمانية عشر ألفاً من أهل الكوفة، وذلك قبل أن تنقلب الاَُمور على مجاريها بشكل لا تصدّقه العقول، حيث استطاع عبيد الله بن زياد بخبثه ودهائه، وإفراطه في القتل، أن يثبّط همم أهل الكوفة، وأن تنكث بيعة الاِمام الحسين _ عليه السلام _، ويقتل سفيره بشكل وحشيّ بشع.
 ولمّا أخذ الاِمام _ عليه السلام _ يقترب من الكوفة استقبله الحرّ بن يزيد الرياحي بألف فارس مبعوثاً من الوالي عبيد الله بن زياد لاستقدامه وإكراهه على إعطاء البيعة ليزيد، وإرساله قهراً إلى الكوفة، فعند ذلك قام الاِمام وخطب بأصحابه وأصحاب الحرّ بقوله: «أيّها الناس إنّ رسول الله قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاّ حرم الله ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله، يعمل في عباده بالاِثم والعدوان، فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله، ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله، وأنا أحقّ من غَيَّر»(7).

الدافع الواقعي للهجرة إلى العراق:
 رغم انّ الدافع الظاهري لهجرته _ عليه السلام _ إلى العراق كانت رسائل أهل الكوفة ورسلهم حتّى أنّ الاِمام احتجّ بها عندما واجه الحرّ بن يزيد الرياحي وعمر بن سعد عندما سألاه عن سرّ مجيئه إلى العراق فقال: «كتب إليَّ أهل مصركم هذا أن أقدم»(8). إلاّ أنّ السرّ الحقيقي لهجرته _ عليه السلام _ رغم إدراكه الواضح لما سيترتّب عليها من نتائج خطرة ستودي بحياته الشريفة ـ وهو ما وطّن نفسه _ عليه السلام _ عليه ـ يمكن إدراكه من خلال الاستقراء الشامل لمسيرة حياته، وكيفية تعامله مع مجريات الاَحداث.
 إنّ الاَمر الذي لا مناص من الذهاب إليه هو إدراك الاِمام _ عليه السلام _ ما ينتجه الاِذعان والتسليم لتولّـي يزيد بن معاوية خلافة المسلمين رغم ما عُرف عنه من تهتّك ومجون وانحراف واضح عن أبسط المعايير الاِسلامية، وفي هذا مؤشّـر خطر على عظم الانحراف الذي أصاب مفهوم الخلافة الاِسلامية، وابتعادها الرهيب عن مضمونها الشرعي.
 ومن هنا فكان لابدّ من وقفة شجاعة تعيد للاَُمّة جانباً من رشدها المضاع وتفكيرها المسلوب. إنّ الاِمام الحسين _ عليه السلام _ قد أعلنها صراحة بقوله لمّا طالبه مروان بن الحكم بالبيعة ليزيد، حيث قال: «فعلى الاِسلام السلام إذا بليت الاَُمّة براع مثل يزيد» كما عرفت سابقاً.
 نعم إنّ رسول الله _ صلى الله عليه وآله وسلم _ قال: «صنفان من أُمّتي إذا صلحا صلحت أُمّتي، وإذا فسدا فسدت أُمّتي، قيل: يا رسول الله ومن هما؟ فقال: الفقهاء والاَُمراء»(9)، فإذا كان صلاح الاَُمّة وفسادها رهن صلاح الخلافة وفسادها، فقيادة مثل يزيد لا تزيد الاَمر إلاّ عيثاً وفساداً.
 إنّ القيادة الاِسلامية بين التنصيص والشورى، ولم يملك يزيد السلطة لا بتنصيص من الله سبحانه ولا بشورى من الاَُمّة، وهذا ما أدركه المسلمون آنذاك حيث كتبوا إلى الحسين _ عليه السلام _ رسالة جاء فيها: أمّا بعد فالحمد لله الذي قصم عدوّك الجبّار العنيد الذي انتزى على هذه الاَُمّة فابتزّها أمرها وغصبها فيئها وتأمّر عليها بغير رضى منها، ثمّ قتل خيارها واستبقى شرارها(10).
 ولم يكن الولد (يزيد) فريداً في غصب حقّ الاَُمّة، بل سبقه والده معاوية إلى ذلك كما هو معروف، وليس بخاف على أحد، وإلى تلك الحقيقة المرّة يشير الاِمام عليّ _ عليه السلام _ في كتاب له إلى معاوية، حيث يقول:
 «فقد آن لك أن تنتفع باللمح الباصر من عيان الاَُمور، فقد سلكت مدارج أسلافك بادّعائك الاَباطيل واقتحامك غرور المين والاَكاذيب، وبانتحالك ما قد علا عنك، وابتزازك لما قد اختزن دونك فراراً من الحقّ وجحوداً لما هو ألزم لك من لحمك ودمك ممّا قد وعاه سمعك، وملىَ به صدرك، فماذا بعد الحق إلاّ الضلال المبين»(11).
 هذا ونظائره المذكورة في التاريخ ما دفع الحسين إلى الثورة، وتقديم نفسه وأهل بيته قرابين طاهرة من أجل نصرة هذا الدين العظيم، مع علمه بأنّه وفقاً لما تحت يديه من الاِمكانات المادّية لن يستطيع أن يواجه دولة كبيرة تمتلك القدرات المادّية الضخمة ما يمكنها من القضاء على أيّ ثورة فتيّة، نعم إنّ الاِمام الحسين _ عليه السلام _ كان يدرك قطعاً هذه الحقيقة، إلاّ أنّه أراد أن يسقي بدمائه الطاهرة المقدّسة شجرة الاِسلام الوارفة التي يريد الاَُمويّون اقتلاعها من جذورها.
 كما أنّ الاِمام _ عليه السلام _ أراد أن يكسر حاجز الخوف الذي أصاب الاَُمّة فجعلها حائرة متردّدة أمام طغيان الجبابرة وحكّام الجور، وأن تصبح ثورته مدرسة تتعلّم منها الاَجيال معنى البطولة والتضحية من أجل المبادىَ والعقائد، وكان كلّ ذلك بعد استشهاد الاِمام _ عليه السلام _، والتاريخ خير شاهد على ذلك.
 كان المعروف منذ ولادة الاِمام الحسين _ عليه السلام _ أنّه سيستشهد في العراق في أرض كربلاء وعرف المسلمون ذلك في عصر النبيّ الاَكرم _ صلى الله عليه وآله وسلم _ووصيّه، لذا كان الناس يترقّبون حدوث تلك الفاجعة، كما أنّ هناك الكثير من القرائن التي تدلّ بوضوح على حتميّة استشهاده _ عليه السلام _، ومن ذلك:
 1 ـ روى غير واحد من المحدّثين عن أنس بن الحارث الذي استشهد في كربلاء أنّه قال: سمعت رسول الله _ صلى الله عليه وآله وسلم _يقول: «إنّ ابني هذا يقتل بأرض يقال لها كربلاء، فمن شهد ذلك منكم فلينصره» فخرج أنس بن الحارث فقتل بها مع الحسين _ عليه السلام _(12).
 2 ـ إنّ أهل الخبرة والسياسة في عصر الاِمام كانوا متّفقين على أنّ الخروج إلى العراق يكون خطراً كبيراً على حياة الاِمام _ عليه السلام _ وأهل بيته، ولاَجل ذلك أخلصوا له النصيحة، وأصرّوا عليه عدم الخروج، ويتمثّل ذلك في كلام أخيه محمّد بن الحنفيّة، وابن عمّه ابن عبّاس، ونساء بني عبدالمطّلب، ومع ذلك اعتذر لهم الاِمام
وأفصح عن عزمه على الخروج(13).
 3 ـ لمّا عزم الاِمام المسير إلى العراق خطب وقال: «الحمد لله وما شاء الله ولا قوّة إلاّ بالله وصلّى الله على رسوله، خُطّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي، اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخُـيّـر لي مصرع أنا أُلاقيه، كأنّي بأوصالي تقطّعها عسلان الفلوات، بين النواويس وكربلاء فيملاَن منّي أكراشاً جُوَّفاً وأجربة سغباً، لا محيص عن يوم خطّ بالقلم. رضى الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه، ويوفينا أُجور الصابرين، لن تشذّ عن رسول الله _ صلى الله عليه وآله وسلم _ لحمته، بل هي مجموعة له في حظيرة القدس تَقرّ بهم عينه، وينجز بهم وعده، ألا ومن كان فينا باذلاً مهجته، موطِّناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا؛ فإنّي راحل مصبحاً إن شاء الله تعالى»(14).
 4 ـ لمّا بلغ عبد الله بن عمر ما عزم عليه الحسين _ عليه السلام _ دخل عليه فلامه في المسير، ولما رآه مصرّاً عليه قبّل ما بين عينيه وبكى وقال: أستودعك الله من قتيل(15).
 5 ـ لمّا خرج الحسين _ عليه السلام _ من مكّة لقيه الفرزدق الشاعر فقال له: إلى أين يا بن رسول الله _ صلى الله عليه وآله وسلم _؟ ما أعجلك عن الموسم؟ قال: «لو لم أعجل لاَُخذْتُ، ثمّ قال له: أخبرني عن الناس خلفك» فقال: الخبير سألت، قلوب الناس معك، وأسيافهم عليك(16).
 6 ـ لما أتى إلى الحسين خبر قتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة وعبد الله بن يقطر، قال لاَصحابه: «لقد خذلنا شيعتنا، فمن أحبّ منكم الانصراف فلينصرف غير حرجٍ ليس عليه ذمام» فتفرّق الناس عنه، وأخذوا يميناً وشمالاً، حتى بقي في أصحابه الذين جاءوا معه من المدينة ونفر يسير ممّن انضمّوا إليه. ومع ذلك فقد واصل _ عليه السلام _ مسيره نحو الكوفة، ولما مرّ ببطن العقبة لقيه شيخ من بني عكرمة يقال له: عمر بن لوذان، فسأل الاِمام: أين تريد؟ فقال له الحسين _ عليه السلام _: «الكوفة» فقال الشيخ: أُنشدك لمّا انصرفت، فوالله ما تقدِمُ إلاّ على الاَسنّة وحدّ السيوف، فقال له الحسين: «ليس يخفى عليّ الرأي، وأنّ الله تعالى لا يُغلب على أمره»(17).
 في نفس النصّ دلالة على أنّ الاِمام كان يدرك ما كان يتخوّفه غيره، و أنّ مصيره لو سار إلى الكوفة هو القتل، ومع ذلك أكمل السير طلباً للشهادة من أجل نصرة الدين وردّ كيد أعدائه، وحتى لا تبقى لاَحد حجة يتذرّع بها لتبرير تخاذله وضعفه.
 نعم لقد كان الحسين _ عليه السلام _ على بيّنة من أمره وما سيؤول إليه سفره من مصير محتوم، فلا شيء يقف أمام إرادته من أجل إعلاء كلمة الدين وتثبيت دعائمه التي أراد الاَُمويّون تقويضها، انظر إليه وهو يخاطب الحرّ بن يزيد الرياحي الذي يحذّره من مغبّة إصراره على موقفه حيث يقول له: «أفبالموت تخوّفني، وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني، وسأقول كما قال أخو الاَوس لابن عمّه وهو يريد نصرة رسول الله فخوّفه ابن عمّه وقال: أين تذهب فإنّك مقتول، فقال:
 
 
سأمضي وما بالموت عار على الفتى * إذا ما نوى حقّاً وجاهد مسلما
 وواسى الرجال الصالحين بنفسه * وفارق مثبوراً وخالف مجرما
 فإن عشت لم أندَم وإن مِتُّ لم أُلمْ * كفى بك ذلاًّ أن تعيش وترغما»(18)

ثمّ إنّه كان لشهادة الحسين _ عليه السلام _ أثر كبير في إيقاظ شعور الاَُمّة وتشجيعها على الثورة ضدّ الحكومة الاَُموية التي أصبحت رمزاً للفساد والانحراف عن الدين، ولاَجل ذلك توالت الثورات بعد شهادته من قبل المسلمين في العراق والحجاز، وهذه الانتفاضات وإن لم تحقّق هدفها في وقتها، ولكن كان لها الدور الاَساسي في سقوط الحكومة الاَُمويّة بعد زمان.
 ولقد أجاد من قال: لولا نهضة الحسين _ عليه السلام _ وأصحابه ـ رضي الله عنهم ـ يوم الطفّ لما قام للاِسلام عمود، ولا اخضرّ له عود، ولاَماته معاوية وأتباعه ولدفنوه في أوّل عهده في لحده. فالمسلمون جميعاً بل الاِسلام من ساعة قيامه إلى قيام الساعة رهين شكر للحسين _ عليه السلام _ وأصحابه ـ رضي الله عنهم ـ(19).
 بلى، فلا مغالاة في قول من قال: إنّ الاِسلام محمّديّ الحدوث حسينيّ البقاء والخلود.
 ترى أنّى للاِمام الحسين _ عليه السلام _ الاِذعان لحقيقة تسلّم يزيد مقاليد خلافة رسول الله _ صلى الله عليه وآله وسلم _، يزيد المنحرف الفاسد، عدوّ الله وعدوّ رسوله، الذي لم يستطع إخفاء دفائنه عندما أُحضر رأس سيد الشهداء بين يديه حيث أنشد:
 
 
ليت أشياخي ببدر شهدوا * جزع الخزرج من وقع الاَسلْ
 لاَهلّوا واستهلّوا فرحاً * ثمّ قالوا يا يزيد لا تشلّ
 قد قتلنا القرم من ساداتهم * وعدلنا قتل بدر فاعتدل
 لست من خندف إن لم أنتقم * من بني أحمد ما كان فعل
 لعبت هاشم بالملك فلا * خبر جاء ولا وحي نزل(20)

وأمّا بيان خروجه من مكة متوجّهاً إلى العراق والحوادث التي عرضت له في مسيره إلى أن نزل بأرض كربلاء، والتي استشهد فيها مع أولاده وأصحابه البالغ عددهم 72 شخصاً، ظمآنَ وعطشانَ، فهو خارج عن موضوع البحث. وقد أُلّفت فيه مئات الكتب وعشرات الموسوعات.
 
شهادته _ عليه السلام _

 لقد استشهد يوم الجمعة لعشر خلون من المحرم سنة 61 من الهجرة، وقيل يوم السبت، وكان قد أدرك من حياة النبيّ الاَكرم _ صلى الله عليه وآله وسلم _ خمس أو ستّ سنوات، وعاش مع أبيه 36 سنة، ومع أخيه 46 سنة.
 فسلام الله عليه يوم ولد، ويوم استشهد ويوم يبعث حيّاً.


(1) الاِمامة والسياسة 1: 163.
(2) أي قممها وأعاليها.

(3) الاِمامة والسياسة 1: 164.
(4) الاِرشاد: 200.
(5) الخوارزمي، مقتل الحسين 1: 184 ـ 185.
(6) المفيد، الارشاد: 204.

(7) الطبري، التاريخ 4: 304 حوادث سنة 61هـ، ولمعرفة ما جرى على الاِمام وأهل بيته حتّى نزل أرض كربلاء راجع المقاتل.

(8) الارشاد: 224 ـ 228.
(9) القمّي، سفينة البحار 2: 30 مادة أمر.
(10) ابن الاَثير، الكامل 2: 266 ـ 267، الارشاد: 203.
(11) نهج البلاغة | الكتاب 65.
(12) الاِصابة 1: 81 | 266.

(13) لاحظ المحاورات التي جرت بين الاِمام وهؤلاء في الاِرشاد: 201 ـ 202، مقاتل الطالبيين 109، اللهوف: 20 ط بغداد.
(14) اللهوف: 41.
(15) تذكرة الخواصّ: 217 ـ 218.
(16) الاِرشاد: 218.

(17) الاِرشاد: 223.
(18) الاِرشاد: 225، الطبري في تأريخه 5: 204.

(19) جنّة المأوى: 208 للشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء.
(20) البيتان الاَوّلان لابن الزبعرى، والثلاثة الاَخيرة ليزيد، لاحظ تذكرة الخواص: 235.
Powered by: InnoPortal Plus 1.2 - Developed by: InnoFlame.com